الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}. {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} تذللا واستكانة، {وَخُفْيَةً} أي سرا. قال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، وإن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله سبحانه يقول: "ادعوا ربكم تضرعا وخفية"، وإن الله ذكر عبدا صالحا ورضي فعله فقال: "إذ نادى ربه نداء خفيا" (مريم- 3). {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} قيل: المعتدين في الدعاء، وقال أبو مجلز: هم الذين يسألون منازل الأنبياء عليهم السلام. أخبرنا عمر بن عبد العزيز الفاشاني، أنبأنا القاسم بن جعفر الهاشمي، أنبأنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي، ثنا أبو داود السجستاني، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد يعني ابن سلمة، أنبأنا سعيد الجريري، عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: يا بني سل الله الجنة وتعوذ من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء". وقيل: أراد به الاعتداء بالجهر والصياح قال ابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصياح. وروينا عن أبي موسى قال لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا". وقال عطية: هم الذين يدعون على المؤمنين فيما لا يحل، فيقولون: اللهم أخزهم اللهم العنهم. {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} أي لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة الله، وهذا معنى قول الحسن والسدي والضحاك والكلبي. وقال عطية: لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم. فعلى هذا معنى قوله: "بعد إصلاحها" أي: بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب. {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي: خوفا منه ومن عذابه، وطمعا فيما عنده من مغفرته وثوابه. وقال ابن جريج: خوف العدل وطمع الفضل. {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ولم يقل قريبة، قال سعيد بن جبير: الرحمة هاهنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ كقوله: {وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} (النساء- 8) ولم يقل منها لأنه أراد الميراث والمال. وقال الخليل بن أحمد: القريب والبعيد يستوي فيهما في اللغة: المذكر والمؤنث والواحد والجمع. قال أبو عمرو بن العلاء: القريب في اللغة يكون بمعنى القرب وبمعنى المسافة، تقول العرب: هذه امرأة قريبة منك إذا كانت بمعنى القرابة، وقريب منك إذا كانت بمعنى المسافة.
{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)}. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا} قرأ عاصم "بُشرا" بالباء وضمها وسكون الشين هاهنا وفي الفرقان وسورة النمل، ويعني: أنها تبشر بالمطر بدليل قوله تعالى: {الرياح مبشرات} (الروم- 46)، وقرأ حمزة والكسائي "نشرا" بالنون وفتحها، وهي الريح الطيبة اللينة، قال الله تعالى: {والناشرات نشرا} (المرسلات- 3)، وقرأ ابن عامر بضم النون وسكون الشين، وقرأ الآخرون بضم النون والشين، جمع نشور، مثل صبور وصبر ورسول ورسل، أي: متفرقة وهي الرياح التي تهب من كل ناحية {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي: قدام المطر. أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنبأنا أبو العباس الأصم أنبأنا الربيع أنبأنا الشافعي أنبأنا الثقة عن الزهري عن ثابت بن قيس عن أبي هريرة قال: أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر حاج فاشتدت، فقال عمر رضي الله عنه لمن حوله: ما بلغكم في الريح فلم يرجعوا إليه شيئا، فبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر رضي الله عنه، وكنت في مؤخر الناس، فقلت: يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب فلا تسبوها، وسلوا الله من خيرها وتعوذوا به من شرها" ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري بإسناده. {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ} حملت الرياح {سَحَابًا ثِقَالا} بالمطر، {سُقْنَاهُ} وردّ الكناية إلى السحاب، {لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} أي: إلى بلد ميت محتاج إلى الماء، وقيل: معناه لإحياء بلد ميت لا نبات فيه {فَأَنْزَلْنَا بِهِ} أي: بالسحاب. وقيل: بذلك البلد الميت {الْمَاءَ} يعني: المطر، {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} استدل بإحياء الأرض بعد موتها على إحياء الموتى، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قال أبو هريرة وابن عباس: إذا مات الناس كلهم في النفخة الأولى أرسل الله عليهم مطرا كمنيّ الرجال من ماء تحت العرش يدعى ماء الحيوان، فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح، ثم يلقي عليهم النوم فينامون في قبورهم، ثم يحشرون بالنفخة الثانية وهم يجدون طعم النوم في رءوسهم وأعينهم، فعند ذلك يقولون: {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} (يس- 52). قوله عز وجل: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} هذا مثل ضربه الله عز وجل للمؤمن والكافر فمثل المؤمن مثل البلد الطيب، يصيبه المطر فيخرج نباته بإذن ربه، {وَالَّذِي خَبُثَ} يريد الأرض السبخة التي {لا يَخْرُجُ} نباتها، {إِلا نَكِدًا} قرأ أبو جعفر بفتح الكاف، وقرأ الآخرون بكسرها، أي: عسرا قليلا بعناء ومشقة. فالأول: مثل المؤمن الذي إذا سمع القرآن وعاه وعقله وانتفع به، والثاني: مثل الكافر الذي يسمع القرآن فلا يؤثر فيه، كالبلد الخبيث الذي لا يتبين أثر المطر فيه {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} نبينها، {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حماد بن أسامة عن يزيد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62)}. قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس، وهو أول نبي بعث بعد إدريس، وكان نجارا بعثه الله إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس: ابن أربعين سنة. وقيل: بعث وهو ابن مائتين وخمسين سنة. وقال مقاتل: ابن مائة سنة. وقال ابن عباس: سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه. واختلفوا في سبب نوحه فقال بعضهم: لدعوته على قومه بالهلاك، وقيل: لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان. وقيل: لأنه مر بكلب مجذوم، فقال: اخسأ يا قبيح فأوحى الله تعالى إليه: أعبتني أم عبت الكلب؟ {فَقَالَ} لقومه، {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} قرأ أبو جعفر والكسائي {مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} بكسر الراء حيث كان، على نعت الإله، وافق حمزة في سورة فاطر: (هل من خالق غير الله) (فاطر- 3)، وقرأ الآخرون برفع الراء على التقديم، تقديره: ما لكم غيره من إله، {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إن لم تؤمنوا، {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. {قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ} خطأ وزوال عن الحق، {مُبِينٍ} بيّن. {قَالَ} نوح، {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ} ولم يقل ليست، لأن معنى الضلالة: الضلال أو على تقديم الفعل، {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. {أُبَلِّغُكُمْ} قرأ أبو عمرو: "أبلغكم" بالتخفيف حيث كان من الإبلاغ. لقوله: {لقد أبلغتكم} (الأعراف- 93)، {رِسَالاتِ رَبِّي} "ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم"، وقرأ الآخرون بالتشديد من التبليغ، لقوله تعالى: (بلغ ما أنزل إليك) (المائدة- 67)، رسالات ربي {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} يقال نصحته ونصحت له، والنصح أن يريد لغيره من الخير ما يريد لنفسه، {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أن عذابه لا يرد عن القوم المجرمين.
{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)}. {أَوَعَجِبْتُمْ} ألف استفهام دخلت على واو العطف، {أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: موعظة. وقيل: بيان. وقيل: رسالة. {عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ} عذاب الله إن لم تؤمنوا، {وَلِتَتَّقُوا} أي: لكي تتقوا الله، {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لكي ترحموا. {فَكَذَّبُوهُ} يعني: كذبوا نوحا، {فَأَنْجَيْنَاهُ} من الطوفان، {وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} في السفينة، {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} أي: كفارا، قال ابن عباس: عميت قلوبهم عن معرفة الله. قال الزجاج: عموا عن الحق والإيمان، يقال رجل عم عن الحق وأعمى في البصر. وقيل: العمي والأعمى كالخضر والأخضر. قال مقاتل: عموات عن نزول العذاب بهم وهو الغرق. قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} أي: وأرسلنا إلى عاد- وهو عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام-، وهي عاد الأولى "أخاهم" في النسب لا في الدين "هودا"، وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوص. وقال ابن إسحاق: هو بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح، {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} أفلا تخافون نقمته؟ {قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ} يا هود، {فِي سَفَاهَةٍ} في حمق وجهالة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: تدعونا إلى دين لا نعرفه، {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أنك رسول الله إلينا. {قَالَ} هود، {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)}. {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} ناصح أدعوكم إلى التوبة أمين على الرسالة. قال الكلبي: كنت فيكم قبل اليوم أمينا. {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ} يعني نفسه، {لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ}. يعني في الأرض، {مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} أي: من بعد إهلاكهم، {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} أي: طولا وقوة. قال الكلبي والسدي: كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع، وقامة القصير منهم ستون ذراعا. وقال أبو حمزة الثمالي: سبعون ذراعا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ثمانون ذراعا. وقال مقاتل: كان طول كل رجل اثني عشر ذراعا. وقال وهب: كان رأس أحدهم مثل القبة العظيمة وكان عين الرجل تفرخ فيها الضباع، وكذلك مناخرهم. {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} نعم الله، واحدها إليَّ وآلاء مثل مِعَيّ وأمعاء، وقفا وأقفاء، ونظيرها: (آناء الليل) (الزمر- 9)، واحدها أنا وآناء، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من الأصنام، فأتنا بما تعدنا، من العذاب، {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. {قَالَ} هود، {قَدْ وَقَعَ} وجب ونزل، {عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ} أي عذاب، والسين مبدلة من الزاي، {وَغَضَبٌ} أي: سخط، {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا} وضعتموها، {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} قال أهل التفسير: كانت لهم أصنام يعبدونها سموها أسماء مختلفة، {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} حجة وبرهان، {فَانْتَظِرُوا} نزول العذاب، {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}. {فَأَنْجَيْنَاهُ} يعني هودا عند نزول العذاب، {وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي: استأصلناهم وأهلكناهم عن آخرهم، {وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ}. وكانت قصة عاد على ما ذكر محمد بن إسحاق وغيره: أنهم كانوا قوما ينزلون اليمن وكانت مساكنهم بالأحقاف، وهي رمال بين عمان وحضرموت، وكانوا قد فشوا في الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله عز وجل، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها، صنم يقال له صدى، وصنم يقال له صمود، وصنم يقال له الهباء، فبعث الله إليهم هودا نبيا، وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا، فأمرهم أن يوحدوا الله ويكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم بغير ذلك، فكذبوه فقالوا من أشد منا قوة فبنوا المصانع وبطشوا بطشة الجبارين، فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك. وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء فطلبوا الفرج كانت طلبتهم إلى الله عز وجل عند بيته الحرام بمكة مسلمهم ومشركهم، فيجتمع بمكة ناس كثير شتى، مختلفة أديانهم وكلهم معظّم لمكة، وأهل مكة يومئذ العماليق سموا عماليق، لأن أباهم عمليق بن لاذا بن سام بن نوح، وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة رجل يقال له معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخيبري رجل من عاد، فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا قالوا جهزوا وافدا منكم إلى مكة فليستسقوا لكم، فبعثوا قيل بن عنز ولقيم بن هزال من هزيل، وعقيل بن صندين بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلما يكتم إسلامه، وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر، ثم بعثوا لقمان بن عاد الأصغر بن صندين بن عاد الأكبر، فانطلق كل رجل من هؤلاء ومعه رهط من قومه حتى بلغ عدد وفدهم سبعين رجلا. فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم، فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان، قينتان لمعاوية بن بكر، وكان مسيرهم شهرا ومقامهم شهرا فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوثون بهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه، وقال هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي، والله ما أدري كيف أصنع بهم، أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه، فيظنون أنه ضيق مني بمقامهم عندي، وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدا وعطشا، فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعرا نغنيهم به، لا يدرون من قاله، لعل ذلك أن يحركهم، فقال معاوية بن بكر: ألا يا قيل ويحك قم فهينم *** لعل الله يسقينا غماما فيسقي أرض عاد إن عادا *** قد أمسوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد فليس نرجو *** به الشيخ الكبير ولا الغلاما وقد كانت نساؤهم بخير *** فقد أمست نساؤهم أيامى وإن الوحش تأتيهم جهارا *** فلا تخشى لعادي سهاما وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم *** نهاركمو وليلكمو التماما فقبح وفدكم من وفد قوم *** ولا لقوا التحية والسلاما فلما غنّتهم الجرادتان هذا قال بعضهم لبعض: يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم، وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم، فقال مرثد بن سعد بن عفير، وكان قد آمن بهود سرا: إنكم والله لا تُسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إلى ربكم سقيتم، فأظهر إسلامه عند ذلك وقال: عصت عاد رسولهم فأمسوا *** عطاشا ما تبلهم السماء لهم صنم يقال له صمود *** يقابله صداء والهباء فبصرنا الرسول سبيل رشد *** فأبصرنا الهدى وجلى العماء وإن إله هود هو إلهي *** على الله التوكل والرجاء فقالوا لمعاوية بن بكر: احبس عنا مرثد بن سعد فلا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود، وترك ديننا، ثم خرجوا إلى مكة يستسقون لعاد، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية حتى أدركهم قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له، فلما انتهى إليهم قام يدعو الله، وبها وفد عاد يدعون، فقال: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد، وكان قِيْلُ بن عنز رأس وفد عاد، فقال وفد عاد: اللهم أعط قيلا ما سألك واجعل سؤلنا مع سؤله. وكان قد تخلف عن وفد عاد- حين دعوا- لقمان بن عاد، وكان سيد عاد، حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام، فقال: اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي، وسأل الله طول العمر فعمر عمر سبعة أنسر، وقال قِيْلُ بن عنز حين دعا: يا إلهنا إن كان هود صادقا فاسقنا فإنا قد هلكنا، فأنشأ الله سحائب ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السحايب يا قيل اختر لنفسك وقومك من هذه السحائب ما شئت فقال قيل: اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فناداه مناد: اخترت رمادا رمددا لا تبقي من آل عاد أحدا، وساق الله سبحانه وتعالى السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له "المغيث" فلما رأوها استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا، يقول الله تعالى: (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها) (الأحقاف- 24- 25) أي: كل شيء مرت به. وكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها مهدد، فلما تبينت ما فيها صحت ثم صعقت، فلما أفاقت قالوا لها: ماذا رأيت؟ قالت: رأيت الريح فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها، فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، فلم تدع من آل عاد أحدا إلا هلك، واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه هو ومن معه من الريح إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس، وإنها لتمر من عاد بالظعن فتحملهم بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة، وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليها فبينما هم عنده إذا أقبل رجل على ناقة في ليلة مقمرة مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر، فقالوا له فأين فارقت هودا وأصحابه؟ فقال: فارقتهم بساحل البحر فكأنهم شكوا فيما حدثهم به، فقالت هزيلة بنت بكر: صدق ورب مكة. وذكروا أن مرثد بن سعد ولقمان بن عاد، وقيل بن عنز حين دعوا بمكة، قيل لهم: قد أعطيتكم مُنَاكم فاختاروا لأنفسكم، إلا أنه لا سبيل إلى الخلود، ولا بد من الموت، فقال مرثد: اللهم أعطني صدقا وبرا فأعطي ذلك، وقال لقمان: أعطني يا رب عمرا، فقيل له: اختر، فاختار عمر سبعة أنسر، فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضته فيأخذ الذكر منها لقوته، حتى إذا مات أخذ غيره فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على السابع، وكان كل نسر يعيش ثمانين سنة، وكان آخرها لبد فلما مات لبد مات لقمان معه. وأما قيل فإنه قال: أختار أن يصيبني ما أصاب قومي فقيل له: إن الهلاك، فقال: لا أبالي لا حاجة لي في البقاء بعدهم، فأصابه الذي أصاب عادا من العذاب فهلك. قال السدي: بعث الله على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال، تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فلما رأواها تبادروا البيوت فدخلوها وأغلقوا أبوابهم، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم فدخلت عليهم فأهلكتهم فيها، ثم أخرجتهم من البيوت، فلما أهلكهم الله أرسل عليهم طيرا سوداء فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه. وروي أن الله عز وجل أمر الريح فأهالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين تحت الرمل، ثم أمر الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتهم فرمت بهم في البحر ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها. وفي الحديث: "إنها خرجت عليهم على قدر خرق الخاتم" وروي عن علي رضي الله عنه: أن قبر هود عليه السلام بحضرموت في كثيب أحمر. وقال عبد الرحمن بن سابط: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا، وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل عليهم السلام في تلك البقعة. ويروى: أن النبي من الأنبياء إذا هلك قومه جاء هو والصالحون معه إلى مكة يعبدون الله فيها حتى يموتوا.
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)}. قوله عز وجل: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} وهو ثمود بن عابر بن أرم بن سام بن نوح، وأراد هاهنا القبيلة. قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها، والثمد: الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى {أَخَاهُمْ صَالِحًا} أي: أرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب، لا في الدين صالحا، وهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماشيح بن عبيد بن خادر بن ثمود، {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} حجة من ربكم على صدقي، {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ} أضافها إليه على التفضيل والتخصيص، كما يقال بيت الله، {لَكُمْ آيَةٌ} نصب على الحال، {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ} العشب، {فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} لا تصيبوها بعقر، {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ} أسكنكم وأنزلكم، {فِي الأرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} كانوا ينقبون في الجبال البيوت ففي الصيف يسكنون بيوت الطين، وفي الشتاء بيوت الجبال. وقيل: كانوا ينحتون البيوت في الجبل لأن بيوت الطين ما كانت تبقى مدة أعمارهم لطول أعمارهم، {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ} والعيث: أشد الفساد. {قَالَ الْمَلأ} قرأ ابن عامر: (وقال الملأ) بالواو {الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} يعني الأشراف والقادة الذين تعظموا عن الإيمان بصالح، {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} يعني الأتباع، {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ}. يعني: قال الكفار للمؤمنين، {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} إليكم، {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ}.
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)}. {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} جاحدون. {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} قال الأزهري: العقر هو قطع عرقوب البعير، ثم جعل النحر عقرا لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره، {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} والعتو الغلو في الباطل، يقال: عتا يعتو عتوا: إذا استكبروا، والمعنى: عصوا الله وتركوا أمره في الناقة وكذبوا نبيهم. {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} أي: من العذاب، {إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}. {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} وهي زلزلة الأرض وحركتها وأهلكوا بالصيحة والرجفة، {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ} قيل: أراد الديار. وقيل: أراد في أرضهم وبلدتهم، ولذلك وحد الدار، {جَاثِمِينَ} خامدين ميتين. قيل: سقطوا على وجوههم موتى عن آخرهم. {فَتَوَلَّى} أعرض صالح، {عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} فإن قيل: كيف خاطبهم بقوله لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم بعدما هلكوا بالرجفة؟ قيل: كما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الكفار من قتلى بدر حين ألقاهم في القليب، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده" ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون". وقيل: خاطبهم ليكون عبرة لمن خلفهم. وقيل: في الآية تقديم وتأخير تقديرها: فتولى عنهم، وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي فأخذتهم الرجفة. وكان قصة ثمود على ما ذكره محمد بن إسحاق ووهب وغيرهما: أن عاد لما هلكت وانقضى أمرها عمرت ثمود بعدها، واستخلفوا في الأرض فدخلوا فيها وكثروا وعمروا، حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي، فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا، وكانوا في سعة من معاشهم فعثوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله، فبعث الله إليهم صالحا وكانوا قوما عربا، وكان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا وموضعا، فبعثه الله إليهم غلاما شابا، فدعاهم إلى الله حتى شمط وكبر لا يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون، فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا لما يقول، فقال لهم: أيّ آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا غدا إلى عيدنا، وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعو آلهتنا، فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا، فقال لهم صالح: نعم، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم، وخرج صالح معهم فدعوا أوثانهم، وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به، ثم قال جندع بن عمرو بن حوّاس وهو يومئذ سيد ثمود: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة- لصخرة منفردة في ناحية من الحجر يقال لها الكاثبة- ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء - والمخترجة ما شاكل البخت من الإبل-، فإن فعلت صدقناك وآمنا بك، فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقني ولتؤمنن بي، قالوا: نعم، فصلى صالح ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها، ثم تحركت الهضبة فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها عظما إلا الله، وهم ينظرون ثم نتجت سقيا مثلها في العظم، فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه، وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدقوه فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمغر وكان كاهنهم وكانوا من أشراف ثمود. فلما خرجت الناقة قال لهم صالح: هذه ناقة الله، لها شرب ولكم شرب يوم معلوم، فمكثت الناقة ومعها سقيها في أرض ثمود، ترعى الشجر وتشرب الماء، فكانت ترد الماء غبا، فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ماء فيها، فلا تدع قطرة، ثم ترفع رأسها فتنفشخ حتى تفحج لهم فيحلبون ما شاءوا من لبن، فيشربون ويدخرون، حتى يملئوا أوانيهم كلها ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر أن تصدر من حيث ترد، يضيق عنها، حتى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاءوا من الماء ويدخرون ما شاءوا ليوم الناقة، فهم من ذلك في سعة ودعة، وكانت الناقة تُصيِّف إذا كان الحر بظهر الوادي، فتهرب منها المواشي، أغنامهم وبقرهم وإبلهم، فتهبط إلى بطن الوادي في حره وجدبه، وتشتو ببطن الوادي إذا كان الشتاء، فتهرب مواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدب فأضر ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار، فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم وحملهم ذلك على عقر الناقة، فأجمعوا على عقرها. وكانت امرأتان من ثمود إحداهما يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلز تكنى بأم غنم، وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت عجوزا مسنة، وكانت ذات بنات حسان وذات مال من إبل وبقر وغنم، وامرأة أخرى يقال لها صدوف بنت المحيا وكانت جميلة غنية ذات مواشي كثيرة، وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح وكانتا تحبان عقر الناقة لما أضرت بهما من مواشيهما فتحيلتا في عقر الناقة فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له الحباب لعقر الناقة، وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا، وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة وكانت من أحسن الناس وأكثرهم مالا فأجابها إلى ذلك ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف، وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا، يزعمون أنه كان لزانية، ولم يكن لسالف، ولكنه ولد على فراش سالف، فقالت: أعطيك أيّ بناتي شئت على أن تعقر الناقة، وكان قدار عزيزا منيعا في قومه. أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا هشام عن أبيه أنه أخبره عبد الله بن زمعة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وذكر الناقة والذي عقرها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذ انبعث أشقاها) (الشمس- 12)، انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في قومه مثل أبي زمعة. رجعنا إلى القصة، قالوا: فانطلق قدار بن سالف ومصدع بن مهرج فاستغويا غواة ثمود فاتبعهم سبعة نفر فكانوا تسعة رهط، فانطلق قدار وصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها، وكمن لها مصدع في طريق آخر فمرت على مصدع، فرماها بسهم فانتظم به في عضلة ساقها، وخرجت بنت غنم عنيزة، وأمرت ابنتها، وكانت من أحسن الناس، فأسفرت لقدار ثم ذمرته فشد على الناقة بالسيف فكشفت عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها ثم طعن في لبتها فنحرها، وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه، فلما رأى سقبها ذلك انطلق حتى أتى جبلا منيفا يقال له: صنو، وقيل: اسمه قارة، وأتى صالح فقيل له: أدرك الناقة فقد عقرت، فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه: يا نبي الله إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا، فقال صالح: انظروا هل تدكرون فصيلها، فإن أدركتموه فعسى أن يُرْفَع عنكم العذاب، فخرجوا يطلبونه، فلما رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله تعالى إلى الجبل فتطاول في السماء حتى ما تناله الطير. وجاء صالح فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه، ثم رغا ثلاثا، وانفجرت الصخرة فدخلها. فقال صالح لكل رغوة أجل يوم فتمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب. وقال ابن إسحاق: اتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة، وفيهم مصدع بن مهرج وأخوه ذاب بن مهرج، فرماه مصدع بسهم فانتظم قلبه، ثم جر برجله فأنزله، فألقوا لحمه مع لحم أمه، وقال لهم صالح: انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله ونقمته، قالوا وهم يهزءون به: ومتى ذلك يا صالح؟ وما آية ذلك؟ وكانوا يسمون الأيام فيهم: الأحد أول، والاثنين أهون، والثلاثاء دبار والأربعاء جبار، والخميس مؤنس والجمعة العروبة، والسبت شيار، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء، فقال لهم صالح حين قالوا ذلك: تصبحون غداة يوم مؤنس ووجوهكم مصفرة، ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمرة، ثم تصبحون يوم شيار ووجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب يوم أول. فلما قال لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقروا الناقة: هلم فلنقتل صالحا فإن كان صادقا عجلناه قبلنا، وإن كان كاذبا قد كنا ألحقناه بناقته، فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله، فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطأوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة، فقالوا لصالح: أنت قتلتهم، ثم هموا به فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح، وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبدا فقد وعدكم أن العذاب نازل بكم بعد ثلاث، فإن كان صادقا لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون، فانصرفوا عنهم ليلتهم فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة كأنما طليت بالخلوق، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، فأيقنوا بالعذاب وعرفوا أن صالحا قد صدقهم، فطلبوه ليقتلوه، وخرج صالح هاربا منهم حتى جاء إلى بطن من ثمود يقال لهم بني غنم، فنزل على سيدهم، رجل يقال له نفيل ويكنى بأبي هدب، وهو مشرك فغيبه، ولم يقدروا عليه، فغدوا على أصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع بن هرم: يا نبي الله إنهم ليعذبوننا لندلهم عليك، أفندلهم؟ قال: نعم، فدلهم عليه، وأتوا أبا هدب فكلموه في ذلك، فقال: نعم عندي صالح وليس لكم عليه سبيل، فأعرضوا عنه وتركوه وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم من عذابه، فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون في وجوههم فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الأجل، فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنما خضبت بالدماء فصاحوا وضجوا وبكوا، وعرفوا أنه العذاب، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب، فلما أصبحوا اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار، فصاحوا جميعا: ألا قد حضركم العذاب. فلما كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام، فنزل رملة فلسطين، فلما أصبح القوم تكفنوا وتحنطوا وألقوا أنفسهم إلى الأرض يقلبون أبصارهم إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة، لا يدرون من أين يأتيهم العذاب، فلما اشتد الضحى من يوم الأحد أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصت كل شيء له صوت في الأرض، فقطعت قلوبهم في صدورهم، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك كما قال الله تعالى: "فأصبحوا في دارهم جاثمين"ُ إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة بنت سالف، وكانت كافرة شديدة الكفر والعداوة لصالح، فأطلق الله رجليها بعدما عاينت العذاب، فخرجت كأسرع ما يرى شيء قط حتى أتت قزح، وهو واد القرى، فأخبرتهم بما عاينته من العذاب وما أصاب ثمود، ثم استقت من الماء فسقيت فلما شربت ماتت. وذكر السدي في عقر الناقة وجها آخر قال: فأوحى الله تعالى إلى صالح عليه السلام أن قومك سيعقرون ناقتك، فقال لهم ذلك فقالوا: ما كنا نفعل، فقال صالح: إنه يولد في شهركم هذا غلام يعقرها فيكون هلاككم على يديه، فقالوا: لا يولد لنا ولد في هذا الشهر إلا قتلناه، قال: فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر فذبحوا أبناءهم ثم ولد للعاشر فأبى أن يذبح ابنه، وكان لم يولد له قبل ذلك، وكان ابنه أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا وكان إذا مر بالتسعة ورأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا، فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب قتل أولادهم، فتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله، قالوا: نخرج ليرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر فنأتي الغار فنكون فيه، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه، ثم رجعنا إلى الغار فكنا فيه فانصرفنا إلى رحلنا فقلنا: ما شهدنا مهلك أهله، وإنا لصادقون، فيصدقوننا، يظنون أنا قد خرجنا إلى سفر. وكان صالح لا ينام معهم في القرية، وكان يبيت في مسجد يقال له مسجد صالح، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكّرهم وإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فدخلوا الغار، فسقط عليهم الغار فقتلهم، فانطلق رجال ممن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رضخ، فرجعوا يصيحون في القرية: أي عباد الله ما رضي صالح أن أمرهم بقتل أولادهم حتى قتلهم، فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة. وقال ابن إسحاق: كان تقاسم التسعة على تبييت صالح بعد عقرهم الناقة كما ذكرنا. قال السدي وغيره: فلما ولد ابن العاشر، يعني: قذار، شب في اليوم شباب غيره في الجمعة، وشب في شهر شباب غيره في السنة، فلما كبر جلس مع أناس يصيبون من الشراب، فأرادوا ماء يمزجون به شرابهم، وكان ذلك اليوم شرب الناقة، فوجدوا الماء قد شربته الناقة، فاشتد ذلك عليهم وقالوا: ما نصنع نحن باللبن؟ لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة فنسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيرا لنا، فقال ابن العاشر: هل لكم في أن أعقرها لكم؟ قالوا: نعم، فعقروها. أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبانا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا محمد بن مسكين ثنا يحيى بن حسان بن حيان أبو زكريا ثنا سليمان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر، في غزوة تبوك، أمرهم أن لا يشربوا من بئر بها ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء". وقال نافع عن ابن عمر: فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهريقوا ما استقوا من آبارها وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة. وروى أبو الزبير عن جابر قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائهم ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم، ثم قال: أما بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم، فبعث الله الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج وتشرب ماءهم يوم ورودها، وأراهم مرتقى الفصيل من القارة، فعتوا عن أمر ربهم وعقروها، فأهلك الله تعالى من تحت أديم السماء منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا واحدا يقال له أبو رُغَال، وهو أبو ثقيف كان في حرم الله، فمنعه حرم الله من عذاب الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ودفن معه غصن من ذهب، وأراهم قبر أبي رغال، فنزل القوم فابتدروا بأسيافهم وحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن. وكانت الفرقة المؤمنة من قوم صالح أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت، فلما دخلوها مات صالح فسمى حضرموت ثم بنى الأربعة آلاف مدينة يقال لها حاصوراء، قال قوم من أهل العلم توفي بمكة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وأقام في قومه عشرين سنة.
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)}. قوله تعالى: {وَلُوطًا} أي: وأرسلنا لوطا. وقيل: معناه واذكر لوطا. وهو لوط بن هاران بن تارخ ابن أخي إبراهيم، {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} وهم أهل سدوم وذلك أن لوطا شخص من أرض بابل سافر مع عمه إبراهيم عليه السلام مؤمنا به مهاجرا معه إلى الشام، فنزل إبراهيم فلسطين وأنزل لوطا الأردن، فأرسله الله عز وجل إلى أهل سدوم فقال لهم، {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} يعني: إتيان الذكران، {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} قال عمرو بن دينار ما يرى ذكر على ذكر في الدنيا إلا كان من قوم لوط. {إِنَّكُمْ} قرأ أهل المدينة وحفص (إنكم) بكسر الألف على الخبر، وقرأ الآخرون على الاستئناف، {لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} في أدبارهم، {شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} فسَّر تلك الفاحشة يعني أدبار الرجال أشهى عندكم من فروج النساء، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} مجاوزون الحلال إلى الحرام. قال محمد بن إسحاق: كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فآذوهم، فعرض لهم إبليس في صورة شيخ، فقال: إن فعلتم بهم كذا نجوتم، فأبوا فلما ألح عليهم الناس قصدوهم فأصابوهم غلمانا صباحا، فأخذوهم وقهروهم على أنفسهم فأخبثوا واستحكم ذلك فيهم. قال الحسن: كانوا لا ينكحون إلا الغرباء. وقال الكلبي: إن أول من عمل عمل قوم لوط إبليس، لأن بلادهم أخصبت فانتجعها أهل البلدان، أي: فتمثل لهم إبليس في صورة شاب، ثم دعا إلى دبره، فنكح في دبره، فأمر الله تعالى السماء أن تحصبهم وأمر الأرض أن تخسف بهم.
{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)}. قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا} قال بعضهم لبعض: {أَخْرِجُوهُمْ} يعني: لوطا وأهل دينه، {مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} يتنزهون عن أدبار الرجال. {فَأَنْجَيْنَاهُ} يعني: لوطا، {وَأَهْلَهُ} المؤمنين، وقيل: أهله: ابنتاه، {إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} يعني: الباقين في العذاب، وقيل: معناه كانت من الباقين المعمرين، قد أتى عليها دهر طويل فهلكت مع من هلك من قوم لوط، وإنما قال: "من الغابرين" لأنه أراد: ممن بقي من الرجال فلما ضم ذكرها إلى ذكر الرجال قال: "من الغابرين". {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} يعني: حجارة من سجيل. قال وهب: الكبريت والنار، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} قال أبو عبيدة: يقال في العذاب: أمطر، وفي الرحمة: مطر. قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} أي: وأرسلنا إلى ولد مدين- وهو مدين بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام- وهم أصحاب الأيكة: أخاهم شعيبا في النسب لا في الدين. قال عطاء: هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم. وقال ابن إسحاق: هو شعيب بن ميكائيل بن يسخر بن مدين بن إبراهيم، وأم ميكائيل بنت لوط. وقيل: هو شعيب بن يثرون بن مدين وكان شعيب أعمى وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه، وكان قومه أهل كفر وبخس للمكيال والميزان. {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: "قد جاءتكم بينة من ربكم" ولم تكن لهم آية؟. قيل: قد كانت لهم آية إلا أنها لم تذكر، وليست كل الآيات مذكورة في القرآن. وقيل: أراد بالبينة مجيء شعيب. {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ} أتموا الكيل، {وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} لا تظلموا الناس حقوقهم ولا تنقصوهم إياها، {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} أي: ببعث الرسل والأمر بالعدل، وكل نبي بعث إلى قوم فهو صلاحهم، {ذَلِكُمْ} الذي ذكرت لكم وأمرتكم به، {خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} مصدقين بما أقول.
{وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)}. {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ} أي: على كل طريق، {تُوعِدُونَ} تهددون، {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} دين الله، {مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} زيغا، وقيل: تطلبون الاعوجاج في الدين والعدول عن القصد، وذلك أنهم كانوا يجلسون على الطريق فيقولون لمن يريد الإيمان بشعيب، إن شعيب كذاب فلا يفتننك عن دينك ويتوعدون المؤمنين بالقتل ويخوفونهم، وقال السدي: كانوا عشارين. {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ} فكثر عددهم، {وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي: آخر أمر قوم لوط.
{وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)}. {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا} أي: إن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مكذبين ومصدقين، {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا} بتعذيب المكذبين وإنجاء المصدقين، {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}. {قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} يعني الرؤساء الذين تعظموا عن الإيمان به، {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} لترجعن إلى ديننا الذي نحن عليه، {قَالَ} شعيب {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} يعني: لو كنا، أي: وإن كنا كارهين لذلك فتجبروننا عليه؟ {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} بعد إذ أنقذنا الله منها، {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} يقول إلا أن يكون قد سبق لنا في علم الله ومشيئته أنا نعود فيها فحينئذ يمضي قضاء الله فينا وينفذ حكمه علينا. فإن قيل: ما معنى قوله: "أو لتعودن في ملتنا"، "وما يكون لنا أن نعود فيها"، ولم يكن شعيب قط على ملتهم حتى يصح قولهم ترجع إلى ملتنا؟ قيل: معناه: أو لتدخلن في ملتنا، فقال: وما كان لنا أن ندخل فيها. وقيل: معناه إن صرنا في ملتكم. ومعنى عاد صار. وقيل: أراد به قوم شعيب لأنهم كانوا كفارا فآمنوا فأجاب شعيب عنهم. قوله تعال: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أحاط علمه بكل شيء، {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} فيما توعدوننا به، ثم عاد شعيب بعدما أيس من فلاحهم فقال: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا} أي: اقض بيننا، {بِالْحَقِّ} والفتاح: القاضي، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} أي: الحاكمين.
{وَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)}. {وَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا} وتركتم دينكم، {إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} مغبونون، وقال عطاء: جاهدون. قال الضحاك: عجزة. {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} قال الكلبي: الزلزلة، وقال ابن عباس وغيره: فتح الله عليهم بابا من جهنم، فأرسل عليهم حرا شديدا، فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء، فكانوا يدخلون الأسراب ليتبردوا فيها، فإذا دخلوها وجدوها أشد حرا من الظاهر، فخرجوا هربا إلى البرية فبعث الله سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم وهي الظلة، فوجدوا لها بردا ونسيما فنادى بعضهم بعضا حتى اجتمعوا تحت السحابة، رجالهم ونساؤهم وصبيانهم، ألهبها الله عليهم نارا، ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي، وصاروا رمادا. وروي أن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام ثم سلط عليهم الحر. قال يزيد الجريري: سلط الله عليهم الحر سبعة أيام ثم رفع لهم جبل من بعيد، فأتاه رجل فإذا تحته أنهار وعيون فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم، فذلك قوله (عذاب يوم الظلة) (الشعراء- 89)، قال قتادة: بعث الله شعيبا إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين، أما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة، وأما أصحاب مدين فأخذتهم الصيحة، صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة فهلكوا جميعا. قال أبو عبد الله البجلي: كان أبو جاد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين، وكان ملكهم في زمن شعيب عليه السلام يوم الظلة كلمن، فلما هلك قالت ابنته تبكيه: كلمن قد هد ركني *** هلكه وسط المحله سيد القوم أتاه *** الحتف نارا تحت ظله جعلت نارا عليهم *** دارهم كالمضمحله وقوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أي: لم يقيموا ولم ينزلوا فيها، من قولهم: غنيت بالمكان إذا قمت به، والمغاني المنازل واحدها مغنى، وقيل: كأن لم يتنعموا فيها. {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} لا المؤمنين كما زعموا.
{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)}. {فَتَوَلَّى} أعرض {عَنْهُمْ} شعيب شاخصا من بين أظهرهم حين أتاهم العذاب، {وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى} أحزن {عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} والأسى: الحزن، والأسى: الصبر. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ} فيه إضمار، يعني: فكذبوه، {إِلا أَخَذْنَا} عاقبنا {أَهْلَهَا} حين لم يؤمنوا، {بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} قال ابن مسعود: البأساء: الفقر، والضراء: المرض، وهذا معنى قول من قال: البأساء في المال، والضراء في النفس، وقيل: البأساء البؤس وضيق العيش، والضراء والضر سوء الحال. وقيل: البأساء في الحرب والضراء: الجدب، {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} لكي يتضرعوا فيتوبوا. {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} يعني: مكان البأساء والضراء الحسنة، يعني: النعمة والسعة والخصب والصحة، {حَتَّى عَفَوْا} أي: كثروا وازدادوا، وكثرت أموالهم، يقال: عفا الشعر إذا كثر. قال مجاهد: كثرت أموالهم وأولادهم {وَقَالُوا} من غرتهم وغفلتهم بعد ما صاروا إلى الرخاء، {قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} أي: هكذا كانت عادة الدهر قديما لنا ولآبائنا، ولم يكن ما مسنا من الضراء عقوبة من الله، فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم فإنهم لم يتركوا دينهم لما أصابهم من الضراء، قال الله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} فجأة آمن ما كانوا {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} بنزول العذاب.
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100)}. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ} يعني: المطر من السماء والنبات من الأرض. وأصل البركة: المواظبة على الشيء، أي: تابعنا عليهم المطر والنبات ورفعنا عنهم القحط والجدب، {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من الأعمال الخبيثة. {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} الذين كفروا وكذبوا، يعني: أهل مكة وما حولها، {أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا} عذابنا، {بَيَاتًا} ليلا {وَهُمْ نَائِمُونَ}. {أَوَأَمِنَ} قرأ أهل الحجاز والشام: "أوْ أمن" بسكون الواو، والباقون بفتحها، {أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى} أي: نهارا، والضحى: صدر النهار، ووقت انبساط الشمس، {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} ساهون لاهون. {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} ومكر الله استدراجه إياهم بما أنعم عليهم في دنياهم. وقال عطية: يعني أخذه وعذابه. {أَوَلَمْ يَهْدِ} قرأ قتادة ويعقوب: "نهد" بالنون على التعظيم، والباقون بالياء على التفريدُ يعني أوَلم نبين، {لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ} هلاك {أَهْلِهَا} الذين كانوا فيها قبلهم {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ} أي: أخذناهم وعاقبناهم، {بِذُنُوبِهِمْ} كما عاقبنا من قبلهم، {وَنَطْبَعُ} نختم {عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} الإيمان ولا يقبلون الموعظة، قال الزجاج: قوله {وَنَطْبَعُ عَلَى} منقطع عما قبله لأن قوله {أَصَبْنَاهُمْ} ماض و " نطبع " مستقبل.
{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)}. {تِلْكَ الْقُرَى} أي: هذه القرى التي ذكرت لك أمرها وأمر أهلها، يعني: قرى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب، {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} أخبارها لما فيها من الاعتبار، {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالآيات والمعجزات والعجائب، {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} أي: فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات والعجائب بما كذبوا من قبل رؤيتهم تلك العجائب، نظيره قوله عز وجل: (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) (المائدة- 102). قال ابن عباس والسدي: يعني فما كان هؤلاء الكفار الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا من قبل يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم، فأقروا باللسان وأضمروا التكذيب. وقال مجاهد: معناه فما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم، لقوله عز وجل: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) (الأنعام- 28). قال يمان بن رباب: هذا على معنى أن كل نبي أنذر قومه بالعذاب فكذبوه، يقول: ما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأمم الخالية، بل كذبوا بما كذب أوائلهم، نظيره قوله عز وجل: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون) (الذاريات- 52). {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} أي: كما طبع الله على قلوب الأمم الخالية التي أهلكها، كذلك يطبع الله على قلوب الكفار الذين كتب عليهم أن لا يؤمنوا من قومك. {وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} أي: وفاء بالعهد الذي عاهدهم يوم الميثاق، حين أخرجهم من صلب آدم {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} أي: ما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين ناقضين للعهد.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)}. قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: من بعد نوح وهود وصالح وشعيب، {مُوسَى بِآيَاتِنَا} بأدلتنا، {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا} فجحدوا بها، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، فظلمهم وضع الكفر موضع الإيمان، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} وكيف فعلنا بهم. {وَقَالَ مُوسَى} لما دخل على فرعون، {يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إليك، فقال فرعون: كذبت فقال موسى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} أي: أنا خليق بأن لا أقول على الله إلا الحق، فتكون " على " بمعنى الباء كما يقال: رميت بالقوس ورميت على القوس، وجئت على حال حسنة وبحال حسنة، يدل عليه قراءة أبيّ والأعمش " حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق " وقال أبو عبيدة: معناه حريص على أن لا أقول على الله إلا الحق، وقرأ نافع (عَلَيَّ) بتشديد الياء أي حق واجب علي أن لا أقول على الله إلا الحق. {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} يعني العصا، {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: أطلق عنهم وخلّهم يرجعون إلى الأرض المقدسة، وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة من ضرب اللبن ونقل التراب ونحوهما. فقال فرعون مجيبا لموسى: {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. {فَأَلْقَى} موسى {عَصَاهُ} من يده {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} والثعبان: الذكر العظيم من الحيات، فإن قيل: أليس قال في موضع: (كأنها جان) (النمل- 10)، والجان الحية الصغيرة؟ قيل: إنها كانت كالجان في الحركة والخفة، وهي في جثتها حية عظيمة. قال ابن عباس والسدي: إنه لما ألقى العصا صارت حية عظيمة صفراء شعراء فاغرة فاها ما بين لحييها ثمانون ذراعا وارتفعت من الأرض بقدر ميل، وقامت له على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر، وتوجهت نحو فرعون لتأخذه، وروي أنها أخذت قبة فرعون بين نابيها فوثب فرعون من سريره هاربا وأحدث. قيل: أخذه البطن في ذلك اليوم أربعمائة مرة، وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا ومات منهم خمسة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت ثم قال فرعون: هل معك آية أخرى؟ قال: نعم.
{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)}. {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} فأدخل يده في جيبه ثم نزعها، وقيل: أخرجها من تحت إبطه فإذا هي بيضاء لها شعاع غلب نور الشمس، وكان موسى آدم، ثم أدخلها جيبه فصارت كما كانت. {قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} يعنون أنه ليأخذ بأعين الناس حتى يخيل إليهم العصا حية والآدم أبيض، ويُري الشيء بخلاف ما هو به. {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ} يا معشر القبط، {مِنْ أَرْضِكُمْ} مصر، {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} أي: تشيرون إليه، هذا يقوله فرعون وإن لم يذكره، وقيل: هذا من قول الملأ لفرعون وخاصته. {قَالُوا} يعني الملأ {أَرْجِهْ} قرأ ابن كثير وأهل البصرة وابن عامر بالهمزة وضم الهاء، وقرأ الآخرون بلا همز، ثم نافع برواية ورش والكسائي يشبعان الهاء كسرا، ويسكنها عاصم وحمزة، ويختلسها أبو جعفر وقالون. قال عطاء، معناه أخره. وقيل: احبسه، {وَأَخَاهُ} معناه أشاروا عليه بتأخير أمره وترك التعرض له بالقتل، {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} يعني الشرط والمدائن، وهي مدائن الصعيد من نواحي مصر، قالوا: أرسل إلى هذا المدائن رجالا يحشرون إليك من فيها من السحرة، وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد، فإن غلبهم موسى صدقناه وإن غلبوا علمنا أنه ساحر. فذلك قوله: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} قرأ حمزة والكسائي: "سحار" هاهنا وفي سورة يونس، ولم يختلفوا في الشعراء أنه "سحار". قيل: الساحر: الذي يَعْلمُ السحر ولا يُعَلِّم، والسحَّار: الذي يعلّم، وقيل: الساحر من يكون سحره في وقت دون وقت، والسحار من يديم السحر. قال ابن عباس وابن إسحاق والسدي: قال فرعون لما رأى من سلطان الله في العصا ما رأى: إنا لا نغالب إلا بمن هو أعلم منه، فاتخذ غلمانا من بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية يقال لها الفرحاء يعلمونهم السحر، فعلموهم سحرا كثيرا، وواعد فرعون موسى موعدا فبعث إلى السحرة فجاءوا ومعلمهم معهم، فقال له: ماذا صنعت؟ قال: قد علمتهم سحرا لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء، فإنه لا طاقة لهم به، ثم بعث فرعون في مملكته فلم يترك في سلطانه ساحرا إلا أتى به. واختلفوا في عددهم، فقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين، اثنان من القبط، وهما رأسا القوم، وسبعون من بني إسرائيل. وقال الكلبي: كان الذين يعملونهم رجلين مجوسيين من أهل نينوي، وكانوا سبعين غير رئيسهم. وقال كعب: كانوا اثني عشر ألفا. وقال السدي: كانوا بضعة وثلاثين ألفا. وقال عكرمة: كانوا سبعين ألفا. وقال محمد بن المنكدر: كانوا ثمانين ألفا، وقال مقاتل: كان رئيس السحرة شمعون. وقال ابن جريج: رئيس السحرة يوحنا.
{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)}. {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ} واجتمعوا، {قَالُوا} لفرعون {إِنَّ لَنَا لأجْرًا} أي جُعْلا ومالا. {إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} قرأ أهل الحجاز وحفص: "أن لنا" على الخبر، وقرأ الباقون بالاستفهام، ولم يختلفوا في الشعراء أنه مستفهم. {قَالَ} فرعون {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} في المنزلة الرفيعة عندي مع الأجر، قال الكلبي: يعني أول من يدخل وآخر من يخرج. {قَالُوا} يعني السحرة {يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ} عصاك {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} لعصيّنا وحبالنا. {قَالَ} موسى بل {أَلْقُوا} أنتم، {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} أي: صرفوا أعينهم عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل، وهذا هو السحر، {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} أي: أرهبوهم وأفزعوهم، {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} وذلك أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فإذا هي حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا. وفي القصة أن الأرض كانت ميلا في ميل صارت حيات وأفاعي في أعين الناس. {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} فألقاها فصارت حية عظيمة حتى سدت الأفق. قال ابن زيد: كان اجتماعهم بالإسكندرية. ويقال: بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا، {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} قرأ حفص: "تلقف" ساكنة اللام، خفيفة، حيث كان، وقرأ الآخرون: بفتح اللام وتشديد القاف، أي: تبتلع، {مَا يَأْفِكُونَ} يكذبون من التخاييل وقيل: يزوِّرون على الناس. فكانت تلتقم حبالهم وعصيهم واحدا واحدا حتى ابتعلت الكل وقصدت القوم الذين حضروا فوقع الزحام عليهم فهلك منهم في الزحام خمسة وعشرون ألفا، ثم أخذها موسى فصارت عصا كما كانت.
{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)}. {فَوَقَعَ الْحَقُّ} قال الحسن ومجاهد: ظهر الحق، {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من السحرُ وذلك أن السحرة قالوا: لو كان ما يصنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصيّنا فلما فقدت علموا أن ذلك من أمر الله. {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} ذليلين مقهورين. {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} لله تعالى. قال مقاتل: ألقاهم الله. وقيل: ألهمهم الله أن يسجدوا فسجدوا. وقال الأخفش: من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا. {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فقال فرعون: إياي تعنون فقالوا، {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}. {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} قال مقاتل: قال موسى لكبير السحرة تؤمن بي إن غلبتك؟ فقال: لآتين بسحر لا يغلبه سحر، ولئن غلبتني لأومنن بك، وفرعون ينظر. {قَالَ} لهم {فِرْعَوْنُ} حين آمنوا {آمَنْتُمْ بِهِ} قرأ حفص "آمنتم" على الخبر هاهنا وفي طه والشعراء، وقرأ الآخرون بالاستفهام أآمنتم به، {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أصدقتم موسى من غير أمري إياكم، {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ} أي: صنيع صنعتموه أنتم وموسى: {فِي الْمَدِينَةِ} في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر، {لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ما أفعل بكم. {لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} وهو أن يقطع من كل شق طرفا. قال الكلبي: لأقطعن أيديكم اليمنى وأرجلكم اليسرى، {ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} على شاطئ نهر مصر.
{قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)}. {قَالُوا} يعني السحرة لفرعون، {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} راجعون في الآخرة. {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا} أي: ما تكره منا. وقال الضحاك وغيره: وما تطعن علينا. وقال عطاء: ما لنا عندك من ذنب تعذبنا عليه، {إِلا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} ثم فزعوا إلى الله عز وجل فقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ} اصبب، {عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} ذكر الكلبي: أن فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم وذكر غيره: أنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى: {فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} (القصص- 35). {وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ} له {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأرْضِ} وأرادوا بالإفساد في الأرض دعاءهم الناس إلى مخالفة فرعون في عبادته، {وَيَذَرَكَ} أي: وليذرك، {وَآلِهَتَكَ} فلا يعبدك ولا يعبدها. قال ابن عباس: كان لفرعون بقرة يعبدها، وكان إذا رأى بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، فلذلك أخرج السامري لهم عجلا. وقال الحسن: كان قد علق على عنقه صليبا يعبده. وقال السدي: كان فرعون قد اتخذ لقومه أصناما وأمرهم بعبادتها، وقال لقومه هذه آلهتكم وأنا ربها وربكم، فذلك قوله (أنا ربكم الأعلى) (النازعات- 24)، وقرأ ابن مسعود وابن عباس والشعبي والضحاك: "ويذرك وإلاهتك" بكسر الألف، أي: عبادتك فلا يعبدك، لأن فرعون كان يُعْبَد ولا يَعْبُد وقيل: أراد بالآلهة الشمس. وكانوا يعبدونها قال الشاعر: تروحنا من اللعباء قصرا *** وأعجلنا الإلاهة أن تؤبا {قَالَ} فرعون {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ} قرأ أهل الحجاز: "سنقتل" بالتخفيف من القتل، وقرأ الآخرون بالتشديد من التقتيل على التكثير، {وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} نتركهن أحياء، {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} غالبون. قال ابن عباس: كان فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل في العام الذي قيل أنه يولد مولود يذهب بملكك، فلم يزل يقتلهم حتى أتاهم موسى بالرسالة، وكان من أمره ما كان، فقال فرعون: أعيدوا عليهم القتل، فأعادوا عليهم القتل، فشكت ذلك بنو إسرائيل.
{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)}. {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ} يعني أرض مصر، {يُورِثُهَا} يعطيها {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} بالنصر والظفر. وقيل: السعادة والشهادة. وقيل: الجنة. {قَالُوا أُوذِينَا} قال ابن عباس: لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل، فقالوا- يعني قوم موسى- إنا أوذينا، {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا} بالرسالة بقتل الأبناء، {وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} بإعادة القتل علينا. وقيل: فالمراد منه أن فرعون كان يستسخرهم قبل مجيء موسى إلى نصف النهار، فلما جاء موسى استسخرهم جميع النهار بلا أجر. وذكر الكلبي أنهم كانوا يضربون له اللَّبِن بتبن فرعون، فلما جاء موسى أجبرهم أن يضربوه بتبن من عندهم. {قَالَ} موسى {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} فرعون، {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ} أي: يسكنكم أرض مصر من بعدهم، {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فحقق الله ذلك بإغراق فرعون واستخلافهم في ديارهم وأموالهم فعبدوا العجل. قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} أي: بالجدوب والقحط. تقول العرب: مستهم السنة، أي: جدب السنة وشدة السنة. وقيل: أراد بالسنين القحط سنة بعد سنة، {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} والغلات بالآفات والعاهات. وقال قتادة: أما السنين فلأهل البوادي، وأما نقص الثمرات فلأهل الأمصار، {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي: يتعظون وذلك لأن الشدة ترقق القوب وترغبها فيما عند الله عز وجل.
{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)}. {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} يعني: الخصب والسعة والعافية، {قَالُوا لَنَا هَذِهِ} أي: نحن أهلها ومستحقوها على العادة التي جرت لنا في سعة أرزاقنا ولم يروها تفضلا من الله عز وجل فيشكروا عليها، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} جدب وبلاء ورأوا ما يكرهون، {يَطَّيَّرُوا} يتشاءموا، {بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} وقالوا: ما أصابنا بلاء حتى رأيناهم، فهذا من شؤم موسى وقومه. قال سعيد بن جبير ومحمد بن المنكدر: كان ملك فرعون أربعمائة سنة، وعاش ستمائة وعشرين سنة لا يرى مكروها، ولو كان له في تلك المدة جوع يوم أو حمى ليلة، أو وجع ساعة، لما ادعى الربوبية قط. قال الله تعالى {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} أي: انصباؤهم من الخصب والجدب والخير والشر كله من الله. وقال ابن عباس: طائرهم ما قضى الله عليهم وقدّر لهم. وفي رواية عنه: شؤمهم عند الله ومن قِبَل الله. أي: إنما جاءهم الشؤم بكفرهم بالله. وقيل: معناه الشؤم العظيم الذي لهم عند الله من عذاب النار، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أن الذي أصابهم من الله. {وَقَالُوا} يعني: القبط لموسى {مَهْمَا تَأْتِنَا} متى ما كلمة تستعمل للشرط والجزاء، {تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ} من علامة، {لِتَسْحَرَنَا بِهَا} لتنقلنا عما نحن عليه من الدين، {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدقين. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق- دخل كلام بعضهم في بعض-: لما آمنت السحرة، ورجع فرعون مغلوبا، أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر، فتابع الله عليهم الآيات وأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات، فلما عالج منهم بالآيات الأربع: العصا، واليد، والسنين، ونقص الثمار، فأبوا أن يؤمنوا فدعا عليهم، فقال: يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا وإن قومه قد نقضوا عهدك، رب فخذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة، فبعث الله عليهم الطوفان، وهو الماء، أرسل الله عليهم الماء وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة مختلطة، فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ومن جلس منهم غرق، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة، وركد الماء على أرضهم لا يقدرون أن يحرثوا ولا يعملوا شيئا، ودام ذلك عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت. وقال مجاهد وعطاء: الطوفان الموت. وقال وهب: الطوفان الطاعون بلغة اليمن، وقال أبو قلابة: الطوفان الجدري، وهم أول من عذبوا به فبقي في الأرض. وقال مقاتل: الطوفان الماء طغى فوق حروثهم. وروى ابن ظبيان عن ابن عباس قال: الطوفان أمر من الله طاف بهم، ثم قرأ (فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون) (القلم- 19). قال نحاة الكوفة: الطوفان مصدر لا يُجْمَعُ، كالرجحان والنقصان. وقال أهل البصرة: هو جمع، واحدها طوفانة، فقال لموسى ادع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فرفع عنهم الطوفان، فأنبت الله لهم في تلك السنة شيئا لم ينتبه لهم قبل ذلك من الكلأ والزرع والثمر وأخصبت بلادهم، فقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا وخصبا، فلم يؤمنوا وأقاموا شهرا في عافية، فبعث الله عليهم الجراد فأكل عامة زروعهم وثمارهم وأوراق الشجر حتى كانت تأكل الأبواب وسقوف البيوت والخشب والثياب والأمتعة ومسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم، وابتلي الجراد بالجوع، فكان لا يشبع ولم يصب بني إسرائيل شيء من ذلك فعجوا وضجوا، وقالوا: يا موسى ادع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، وأعطوه عهد الله وميثاقه، فدعا موسى عليه السلام فكشف الله عنهم الجراد بعدما أقام عليه سبعة أيام من السبت إلى السبت. وفي الخبر: "مكتوب على صدر كل جرادة جند الله الأعظم". ويقال إن موسى برز إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت الجراد من حيث جاءت، وكانت قد بقيت من زروعهم وغلاتهم بقية، فقالوا: قد بقي لنا ما هو كافينا فما نحن بتاركي ديننا، فلم يفوا بما عاهدوا، وعادوا لأعمالهم السوء، فأقاموا شهرا في عافية، ثم بعث الله عليهم القمل. واختلفوا في القمل فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: القمل السوس الذي يخرج من الحنطة. وقال مجاهد والسدي وقتادة والكلبي: القمل الدَّبى والجراد الطيارة التي لها أجنحة، والدبى الصغار التي لا أجنحة لها. وقال عكرمة: هي بنات الجراد. وقال أبو عبيدة: وهو الحمْنَان وهو ضرب من القراد. وقال عطاء الخرساني: هو القمل. وبه قرأ أبو الحسن (القَمْل) بفتح القاف وسكون الميم. قالوا: أمر الله موسى أن يمشي إلى كثيب أعفر، بقرية من قرى مصر تدعى عين الشمس، فمشى موسى إلى ذلك الكثيب وكان أهيل فضربه بعصاه فانثال عليهم القمل، فتتبع ما بقي من حروثهم وأشجارهم وبناتهم فأكله، ولحس الأرض كلها وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيعضه، وكان أحدهم يأكل الطعام فيمتلئ قملا. قال سعيد بن المسيب: القمل السوس الذي يخرج من الحبوب، وكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحا فلا يرد منها ثلاثة أقفزة، فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل، وأخذ أشعارهم وأبشارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري عليهم ومنعهم النوم والقرار فصرخوا وصاحوا إلى موسى أنا نتوب فادع لنا ربك يكشف عنا البلاء، فدعا موسى عليه السلام الله فرفع الله القمل عنهم بعدما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت، فنكثوا وعادوا إلى أخبث أعمالهم. وقالوا: ما كنا قط أحق أن نستيقن أنه ساحر منا اليوم يجعل الرمل دواب. فدعا موسى بعدما أقاموا شهرا في عافية، فأرسل الله عليهم الضفادع فامتلأت منها بيوتهم وأفنيتهم وأطعمتهم وآنيتهم، فلا يكشف أحد إناء ولا طعاما إلا وجد فيه الضفادع، وكان الرجل يجلس في الضفادع إلى ذقنه، ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه، وكانت تثب في قدورهم فتفسد عليهم طعامهم وتطفئ نيرانهم، وكان أحدهم يضطجع فتركبه الضفادع فتكون عليه ركاما حتى ما يستطيع أن ينصرف إلى شقه الآخر، ويفتح فاه لأكلته فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه، ولا يعجن عجينا الإ تشدخت فيه، ولا يفتح قدرا إلا امتلأت ضفادع، فلقوا منها أذى شديدا. روى عكرمة عن ابن عباس قال: كانت الضفادع برية، فلما أرسلها الله على آل فرعون سمعت وأطاعت فجعلت تقذف أنفسها في القدور وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور، فأثابها الله بحسن طاعتها برد الماء، فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا ذلك إلى موسى، وقالوا هذه المرة نتوب ولا نعود، فأخذ عهودهم ومواثيقهم، ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بعدما أقام سبعا من السبت إلى السبت، فأقاموا شهرا في عافية ثم نقضوا العهد وعادوا لكفرهم، فدعا عليهم موسى فأرسل الله عليهم الدم، فسال النيل عليهم دما وصارت مياههم دما وما يستقون من الآبار والأنهار إلا وجدوه دما عبيطا أحمر، فشكوا إلى فرعون وقالوا ليس لنا شراب، فقال: إنه سحركم، فقالوا: من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا دما عبيطا؟ وكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي على الإناء الواحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء والقبطي دما ويقومان إلى الجرة فيها الماء فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطي دم حتى كانت المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول اسقني من مائك فتصب لها من قربتها فيعود في الإناء دما حتى كانت تقول اجعليه في فيك ثم مجيه في فيَّ فتأخذ في فيها ماء فإذا مجَّته في فيها صار دما، وإن فرعون اعتراه العطش حتى إنه ليضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة، فإذا مضغها يصير ماؤها في فيه ملحا أجاجا، فمكثوا في ذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم. قال زيد بن أسلم: الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف، فأتوا موسى وقالوا يا موسى ادع ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه عز وجل فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، فذلك قوله عز وجل: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} يتبع بعضها بعضا. وتفصيلها أن كل عذاب يمتد أسبوعا، وبين كل عذابين شهرا، {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}.
{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)}. {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} أي: نزل بهم العذاب وهو ما ذكر الله عز وجل من الطوفان وغيره.. وقال سعيد بن جبير: الرجز الطاعون، وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس حتى مات منهم سبعون ألفا في يوم احد، فأمسوا وهو لا يتدافنون {قَالُوا} لموسى {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} أي: بما أوصاك. وقال عطاء: بما نبأك. وقيل: بما عهد عندك من إجابة دعوتك {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} وهو الطاعون {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}. أخبرنا أبو الحسن السرخسي ثنا زاهر بن أحمد ثنا أبو إسحاق الهاشمي ثنا أبو مصعب عن مالك عن محمد بن المنكدر عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه انه سمعه يسأل أسامة بن زيد: أسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون؟ فقال أسامة بن زيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه" قوله عز وجل: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ} يعني: إلى الغرق في اليم {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} ينقضون العهد. {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} يعني: البحر {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} أي: عن النقمة قبل حلولها غافلين. وقيل: معناه عن آياتنا معرضين.
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)}. {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} يُقهرون ويُستذلون بذبح الأبناء واستخدام النساء والاستعباد وهم بنو إسرائيل {مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا} يعني مصر والشام {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بالماء والأشجار والثمار والخصب والسعة {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} يعني: وفَّت كلمة الله وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين في الأرض، وذلك قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) القصص- 5) {بِمَا صَبَرُوا} على دينهم وعلى عذاب فرعون {وَدَمَّرْنَا} أهلكنا {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} في أرض مصر من العمارات، {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} قال مجاهد: يبنون من البيوت والقصور. وقال الحسن: يعرشون من الأشجار والثمار والأعناب. وقرأ ابن عامر وأبو بكر {يَعْرِشُونَ} بضم الراء هاهنا وفي النحل، وقرأ الآخرون بكسرها. قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} قال الكلبي: عبر بهم موسى البحر يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصامه شكرا لله عز وجل {فَأَتَوْا} فمروا {عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ} يقيمون قرأ حمزة والكسائي " يعكفون " بكسر الكاف وقرأ الآخرون بضمها وهما لغتان، {عَلَى أَصْنَامٍ} أوثان {لَهُمْ} يعبدونها من دون الله. قال ابن جريج: كانت تماثيل بقر، وذلك أول شأن العجل. قال قتادة: كان أولئك القوم من لخم وكانوا نزولا بالرقة، فقالت بنو إسرائيل لما رأوا ذلك: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا} أي: مثالا نعبده {كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ولم يكن ذلك شكا من بني إسرائيل في وحدانية الله، وإنما معناه: اجعل لنا شيئا نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله عز وجل وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة وكان ذلك لشدة جهلهم. {قَالَ} موسى {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} عظمة الله. {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ} مهلك، {مَا هُمْ فِيهِ} والتتبير الإهلاك، {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. {قَالَ} يعني موسى {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ} أي: أبغي لكم وأطلب، {إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي: على عالمي زمانكم. أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار، أنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري، أنا إسحاق بن إبراهيم الديري أنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبي واقد الليثي، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَلَ حنين، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما كان للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون حولها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى "اجعل لنا إلها كما لهم آلهة إنكم تركبون سنن من قبلكم".
{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)}. قوله عز وجل: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ} قرأ ابن عامر "أنجاكم" وكذلك هو في مصاحف أهل الشام، {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ} قرأ نافع "يقتلون" خفيفة، من القتل، وقرأ الآخرون بالتشديد على التكثير من التقتيل، {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}. {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} ذي القعدة، {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} من ذي الحجة، {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى} عند انطلاقه إلى الجبل للمناجاة {لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي} كن خليفتي، {فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} أي أصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله. وقال ابن عباس: يريد الرفق بهم والإحسان إليهم {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} أي: لا تطع من عصى الله ولا توافقه على أمره، وذلك أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهم بمصر: أن الله إذا أهلك عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون! فلما فعل الله ذلك بهم سأل موسى ربه الكتاب، فأمره الله عز وجل أن يصوم ثلاثين يوما، فلما تمت ثلاثون أنكر خلوف فمه، فتسوك بعود خروب. وقال أبو العالية: أكل من لحاء شجرة، فقالت له الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك، فأفسدته بالسواك، فأمره الله تعالى أن يصوم عشرة أيام من ذي الحجة، وقال: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، فكانت فتنتهم في العشر التي زادها.
|